مدينة سلا.. أسطورة البحر التي حرسها القراصنة، ومقام روح، ومسرح حكايات، وفسحة تأمل في التاريخ
على الضفة الشمالية لنهر أبي رقراق، تبدو مدينة سلا مثل قطعة من التاريخ تستريح بهدوئها المهيب، لا تعترف بعجلة الزمن ولا تركض خلف صخب المدن الكبرى، تتكئ على أمواج المحيط الأطلسي بتثاقل لتعكس كل إرثها الذي يمتد لقرون.
هناك، على مرمى حجر من العاصمة الرباط، تقف مدينة سلا شامخة بهيئتها المتواضعة، تخبئ في أزقتها أسرار أحداث مازالت تُدرس للأجيال، وفي جدرانها وأسوارها الباهتة ظلال حضارات، وفي عيون أهلها صفاء ذاكرة جماعية مثقلة بالقصص والحكايات.
منذ لحظة الوصول إلى هذه، ينتاب الزائر إحساس غريب، كما لو أنه لم يأت فقط لاكتشاف مدينة، بل ليعيد وصل ما انقطع مع زمن آخر، فلا ضجيج اصطناعي ولا بهرجة لافتات، فقط نسق متوازن من الهدوء والحياة، من الماضي والحاضر، من البساطة والغنى الخفي. هنا لا يحتاج المرء إلى دليل سياحي، بل يكفي أن يستسلم لدروب المدينة لتتكفل "سلا "بالباقي.
عند باب المريسة، أحد أقدم الأبواب في المغرب، تبدأ الرحلة، حيث يتسلل النسيم من خلف السور المريني العتيق، حاملا معه روائح التاريخ، ورائحة الخشب المحترق، والجلد المدبوغ، والبحر الذي لا يكف عن الحنين.

يعود تاريخ مدينة سلا إلى حقبة الرومان في القرون الميلادية الأولى، غير أن تأسيسها كمدينة ذات طابع حضري، يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، لتتحول مع مرور العصور إلى مركز تجاري وبحري هام، خصوصا في عهد الدولة المرينية، لكن ذروة تميزها التاريخي جاءت خلال القرن السابع عشر، حين أقام فيها الموريسكيون الفارين من محاكم التفتيش الإسبانية، جمهورية بحرية مستقلة عُرفت باسم "جمهورية أبي رقراق"، ومن هناك، من ميناء المدينة، أبحر القراصنة المعروفون بـ"قراصنة سلا" في مغامرات بحرية وصلت شواطئ أوروبا الغربية، وأقاموا علاقات مع دول كبرى، وجلبوا للمدينة ثروات وقصصا لا تزال تُروى في الأزقة العتيقة.
لا تزال آثار تلك الحقبة التاريخية حاضرة في ملامح المدينة، فـ"باب المريسة"، المدخل الرئيسي للمدينة القديمة، يروي بعظمته وقوسه الشاهق حكايات عن السفن التي كانت تعبر تحته نحو البحر، فقد أُنشئ هذا الباب في عهد السلطان أبو يوسف يعقوب المريني سنة 1270م، وما زال حتى اليوم من أهم رموز سلا التاريخية والعمرانية، بحجارته الضخمة ونقوشه الباهتة وأساطيره المعلقة على قوسه العالي.

خلف الباب، تمتد المدينة القديمة بأسوارها وسوقها ودروبها المتعرجة التي تحتفظ بشكلها التقليدي، وهناك، تتعايش الحِرف القديمة مع الحياة اليومية في "سوق الغزل" و"سوق الكبّر" و"سوق السبت"، تتعدد البضائع من تمور وتوابل وحلويات تقليدية وأقمشة مطرزة وصناعات تقليدية من النحاس والخشب والجلد، وتتوزع داخل المدينة العتيقة أكثر من ثلاثين حرفة يدوية ما تزال تقاوم رياح النسيان، وتشهد على عراقة الحرفة المغربية ودقة الصنعة المحلية.
في قلب المدينة، ينتصب "المسجد الأعظم"، واحد من أكبر المساجد في المملكة، بُني أول مرة في القرن الثاني عشر على يد يعقوب المنصور الموحدي، ثم أعيد ترميمه في القرن الثامن عشر بعد أن تعرض لدمار كبير بسبب القصف الفرنسي سنة 1851، في سياق عملية عسكرية انتقامية، وما يميزه ليس فقط حجمه أو تاريخه، بل طابعه الروحي العميق، حيث يشكل فضاء لعبادة هادئة، وساحة للقاء الناس، ومعلما محوريا في نسيج المدينة.

إلى جانبه، تبرز "مدرسة أبو الحسن المريني"، وهي واحدة من أقدم المدارس العلمية في المغرب، بناها السلطان أبو الحسن المريني سنة 1342، وتتميز بطرازها المعماري الأندلسي الفريد، بزخارفها الخشبية الدقيقة وجصّها المنقوش وزليجها الأخضر المزركش، والمدرسة اليوم وإن كانت مغلقة، لكنها ما تزال تجسد بعمارتها وشهادات المؤرخين دور سلا كمركز علمي وثقافي في العصور الوسطى، حيث توافد عليها الطلبة من فاس وتطوان وسبتة، وتخرج منها كبار العلماء والفقهاء.
ليست سلا مدينة التاريخ وحده، بل هي أيضا مدينة الروح، ففيها تنتشر الزوايا الصوفية القديمة التي حافظت على طقوس الذِّكر الجماعي والاحتفالات الدينية، أشهرها "الزاوية الحسونية" التي أسسها القطب الصوفي الحسن بن عبد العزيز الحسوني في القرن التاسع عشر، وما تزال تستقطب المريدين من مختلف أنحاء المغرب، وإلى جانبها، تستمر تقاليد "موكب الشموع"، الذي يُنظم سنويا في ذكرى المولد النبوي الشريف، ويُعد من أعرق المواكب الدينية في المغرب، حيث يحمل الأطفال شموعا ضخمة مزيّنة ويمرّون بها في موكب احتفالي يجوب المدينة العتيقة.

أما على مستوى الفضاءات المفتوحة، فتحتضن المدينة "كورنيش سلا" المطل على مصب أبي رقراق، حيث تتداخل مياه النهر بمياه المحيط في مشهد طبيعي خلاب، يتيح للزائر فرصة التنزه أو ركوب القوارب التقليدية التي تربط سلا بالرباط في دقائق، أو ممارسة الرياضات المائية بما فيها رياضة التجديف عبر الزوارق "الكاياك"، وتشكّل هذه الرحلة الصغيرة فرصة لرؤية الضفتين بعين واحدة، حيث تقابل قصبة الأوداية بقلعتها وجدرانها الزرقاء، سلا القديمة بمآذنها وأسوارها.
وعرفت سلا في السنوات الأخيرة نهضة عمرانية واقتصادية، لا سيما على مستوى النقل والبنية التحتية، إذ توفر المدينة خدمات "الترامواي" الذي يربط أحياءها الكبرى بمدينة الرباط بثمن لا يتجاوز 6 دراهم للرحلة الواحدة، كما تنتشر سيارات الأجرة الصغيرة (ذات العداد) داخل المدينة، حيث تتراوح الأسعار عادة بين 6 و20 درهما حسب المسافة، فيما يتراوح ثمن النقل من سلا إلى الرباط عبر سيارة أجرة كبيرة و"ترامواي" بين 5 و10 دراهم فقط، أو قارب تقليدي يقطع الضفتين بحوالي 2.5 درهما للفرد الواحد.

وتضم المدينة أحياء متنوعة، منها ما هو حديث مثل حي بطانة وحي الانبعاث وحي السلام، ومنها ما هو شعبي وتاريخي كحي كريمة وحي باب سبتة وحي اشماعو، كما توجد فيها أيضا أسواق كبرى ومراكز تجارية حديثة، ومرافق ثقافية مثل "المكتبة الوسائطية بسلا"، و"مركب ثقافي محمد حجي"، وعدد من المعاهد الفنية التي تسعى إلى إعادة الاعتبار للمدينة كفضاء ثقافي حي.
وفي مشهدها العمراني الجديد، ينتصب "برج محمد السادس" كأعلى ناطحة سحاب في إفريقيا، على ضفاف أبي رقراق، وهو رمز للتطور الاقتصادي والمالي، وجزء من مشروع ضخم لتحويل الواجهة المائية بين الرباط وسلا إلى قطب اقتصادي وثقافي دولي، فسلا، التي يزورها البعض في طريقهم إلى الرباط أو فاس أو مكناس، تستحق أن تكون هي المقصد، ذلك أنها ليست فقط مدينة للتجول، بل فضاء لاكتشاف العمق المغربي في أصدق تعابيره، بين الخطى القديمة التي لا تزال تصعد الأزقة الحجرية، وملامح الحاضر التي تتسلل رويدا إلى نسيج المدينة.
من باب المريسة إلى مقبرة الشهداء البحرية، ومن دروب المدينة القديمة إلى الأسواق الحديثة، ومن الزوايا الصوفية إلى ضفة المحيط، تظل سلا مدينة تأبى أن تختصر، وتُصر على أن تُعاش.

ومن بين ما يجعل مدينة سلا تستحق التوقف الطويل، بل وربما الإقامة لأيام، قدرتها العجيبة على الجمع بين المقامات العالية للتاريخ، وإيقاع الحياة اليومية المتواضعة والمألوفة، دون أن يُفسد أحدهما الآخر، ففي المدينة، تسير الحياة على مهل لا عجلة مفرطة، لا صخب اصطناعي، الباعة يعرضون سلعهم بهدوء، الأطفال يلعبون في الأزقة كما لو أن الهاتف الذكي لم يوجد بعد، والناس يتبادلون التحايا في الأسواق والمقاهي دون تكلف.
وتنفتح المدينة لزائرها ليس فقط عبر معالمها العتيقة، بل أيضا من خلال أحيائها وشوارعها ومقاهيها، فحي السلام، الواقع شرق المدينة، يُعتبر من الأحياء السكنية الحديثة نسبيا، ويضم عددا من المرافق الإدارية، وفضاءات عمومية ورياض أطفال ومدارس، بأسعار سكنية تعتبر في المتناول مقارنة بالمدن المجاورة، أما حي بطانة، القريب من نهر أبي رقراق، فقد عرف في السنوات الأخيرة إقبالا كبيرا من سكان الرباط الباحثين عن سكن أوسع وبأسعار أقل، وهو حي يجمع بين الطابع السكني والأسواق المفتوحة والهدوء.

في الجهة الأخرى، تبرز أحياء مثل القرية واشماعو وباب سبتة، وهي أحياء شعبية بامتياز، تتميز بكثافتها السكانية العالية، وأسواقها النشيطة، وروحها الاجتماعية القوية، حيث لا تزال الجيرة الحقيقية قائمة، والروابط بين الناس أكثر دفئا مما هو معتاد في المدن الكبرى، كما أن هذه الأحياء تحتضن الكثير من الحرفيين التقليديين، الذين يشتغلون في صناعة النحاس، والجلد، والخياطة التقليدية، ويشكلون النواة الحية للحرف القديمة التي لم تنقرض في سلا كما حدث في غيرها.
وتنتشر في المدينة العديد من المخابز التقليدية، والأفران التي لا تزال تعتمد الحطب في إعداد الخبز البلدي، إضافة إلى باعة الشاي والأكلات السريعة المغربية في الأزقة، كـ"السفنج" و"الحرشة" و"البغرير"، بأسعار لا تتعدى دراهم معدودة، أما المقاهي، فتتنوع بين التقليدي البسيط والحديث العصري، إذ يمكن للزائر أن يحتسي الشاي بالنعناع في "قهوة القصبة" على مشارف النهر بأقل من 10 دراهم، أو يجلس في مقهى حديث بمحيط مارينا أبي رقراق لاحتساء قهوة إسبريسو بـ25 درهما.
ولا يمكن الحديث عن سلا دون التوقف عند روحها الفنية والثقافية. فالمدينة تُعد مسقط رأس العديد من الفنانين، من المسرحيين إلى الموسيقيين، وتحتضن كل سنة "المهرجان الدولي لفن الملحون"، ومهرجانات أخرى للسينما الوثائقية والفنون الشعبية، كما تحتضن دار الثقافة "تابريكت"، وعددًا من الفضاءات الفنية التي تنظم ورشات للفنون التشكيلية والسينما والتصوير.

ومن المشاريع البارزة التي تعكس طموح سلا للتحول إلى مدينة متكاملة وجذابة، مشروع "مدينة الفنون" الذي أُعلن عنه ضمن المخطط الثقافي الجهوي، والذي يهدف إلى تحويل سلا إلى قطب ثقافي يستقطب الشباب والمبدعين من داخل المغرب وخارجه، كما أن تهيئة "واجهة أبي رقراق"، المشروع المشترك مع الرباط، فتح آفاقا واسعة للاستثمار، والسياحة، والترفيه، عبر إنشاء مسارح، ومساحات خضراء، وقاعات عروض، ومرافق بحرية متقدمة.
ولأن سلا ليست بعيدة عن الرباط، فإنها تستفيد من موقعها الجغرافي في صلب محور اقتصادي وسياسي وثقافي حيوي، يجعل منها في آنٍ واحد مدينة مستقلة بذاتها، وامتدادًا طبيعيا للعاصمة، ومن المفارقات الجميلة أن من يزور الرباط ليوم أو يومين، يكتشف أن أجمل اللحظات وأكثرها عمقا قد يجدها على الضفة الأخرى، في سلا، المدينة التي اختارت ألا ترفع صوتها، لكنها حفظت لنفسها مكانة لا تُنسى في ذاكرة كل من مرّ بها.
وحين يأتي الليل، وتبدأ أضواء القوارب الصغيرة تتراقص على صفحة النهر، وتختلط نداءات المآذن بأمواج البحر، ويدرك الزائر أن سلا ليست مجرد نقطة على خريطة، بل مقام روح، ومسرح حكايات، وفسحة تأمل في عالم سريع النسيان، فهي لا تُستهلك في زيارة واحدة، ولا تُروى قصتها بجولة سريعة، هي مدينة تُعاش على مهل، وتُفهم بالمخالطة، وتُحَب كلما أوغلتَ في تفاصيلها أكثر.. وذلك سرها الأجمل.




